لا يزال خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله الأول منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، وما خلّفته من توتر متصاعد على الحدود الجنوبية للبنان، محور أخذ وردّ ودرس وتحليل، بعدما أضحى "الحدث"، بل كاد لوهلة أن يخطف الأنظار عن الجرائم والمجازر التي تواصل إسرائيل ارتكابها بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، من دون أن توفّر في طريقها مستشفيات ومدارس، ولا حتى سيارات إسعاف، على مرأى ومسمع من العالم، المتمسّك بمقولة "حق الدفاع عن النفس".

لكنّ الخطاب الذي كان مُنتظَرًا منذ الثامن من تشرين الأول الماضي، والذي سبقه "تشويق" من النوع غير المسبوق في أدبيّات "حزب الله" بالحدّ الأدنى، تحوّل أيضًا إلى مادة "انقسام" في الداخل اللبناني، بين فريقٍ أخذته "الحماسة" لحدّ انتظار إعلان السيد نصر الله "الحرب على إسرائيل"، نصرةً للفلسطينيين في غزة، وفريقٍ آخر رافضٍ للحرب بالمطلق من حيث المبدأ، لكنه وجد الفرصة مناسبة، بل ربما "مثاليّة" للتصويب على ما وصفه بـ"تفريط" الحزب بالقضية الفلسطينية المركزية.

بين هذا وذاك، ثمّة من يعتبر أنّ الخطاب جاء أدنى من سقف التوقعات، التي يتحمّل "حزب الله" نفسه مسؤولية "تضخيمها"، على الرغم من الوقائع والمعطيات الموضوعيّة، وثمّة من يرى في المقابل أنّه جاء "واقعيًا ومدوزنًا"، تمامًا كعمليات الحزب "المضبوطة" حتى الآن، ليبقى الثابت أنّ الحزب غيّر "تكتيكه"، وأنّ الخطاب الذي كرّس "كسرًا لاستراتيجية الصمت" التي اعتمدها السيد نصر الله منذ بدء الحرب، قد يكون بمثابة "خطوة فاصلة" بين مرحلتين، وإن لم تكن معالمها قد اتّضحت بعد.

لعلّه "الوضوح والغموض" الذي تعمّد الأمين العام لـ"حزب الله" الحديث عنه في خطابه، الذي لم يكن الهدف منه "طمأنة إسرائيل" كما أوحى بعض الخصوم، أو أرادوا الإيحاء، بدليل الحديث عن "الخيارات المفتوحة"، وعن "عدم الاكتفاء" بما يجري حاليًا على الحدود الجنوبية، لكن كيف يُفهَم كلّ ذلك في سياق التطورات المتصاعدة لبنانيًا وفلسطينيًا؟ ما الرسائل الفعلية التي أراد "حزب الله" إيصالها من خلال خطاب يقول البعض، إنه سيكون "باكورة" إطلالات عدّة في القادم من الأيام؟!.

من حيث المبدأ، يضع العارفون خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" في السياق "الواقعي والطبيعي" للأحداث، بعيدًا عن الرهانات "المضخّمة" التي وُضِعت عليه، وما خلّفته من هواجس قد تكون مشروعة باستحضار "شبح" الحرب الشاملة والمدمّرة، فهو جاء بهذا المعنى "متناغمًا" إن جاز التعبير مع أدبيّات الحرب النفسية التي يخوضها الحزب مع الإسرائيليين جنوبًا، والتي كانت "البروباغندا" المرافقة للخطاب جزءًا منها، تمامًا كما كان "صمت" السيد نصر الله قبل الخطاب جزءًا لا يتجزّأ منها.

وبمعزل عن بعض الآراء الداخلية التي لم تفوّت الفرصة للهجوم على الحزب، ولو أظهرها ذلك وكأنّها كانت تريد منه أن يفتح كل الجبهات ويعلن الحرب نصرةً للفلسطينيين، في حين يدرك القاصي والداني أنّها كانت قد جهّزت خطابًا مضادًا في هذه الحالة، يقول العارفون إنّ ما أراده "حزب الله" من الخطاب هو توجيه رسائل "حازمة" إلى الإسرائيليين، سواء في ما يتعلق بتأكيد الجهوزية لمواجهة أيّ سيناريو يمكن أن تتدحرج معه الأمور في أيّ وقت، أو بتكريس التغيير في قواعد الاشتباك على الجبهة الجنوبية.

صحيح أنّ ما أدلى به السيد نصر الله قد يحمل في بعض جوانبه "طمأنة" للداخل اللبناني، من خلال "تحييد" البلد عن المواجهة الشاملة، وهو ما تجلّى أيضًا في نفيه أن يكون قد علم مسبقًا بعملية "طوفان الأقصى"، ليدحض بذلك كل ما حُكي عن غرفة عمليات مشتركة، كما في تأكيده أنّ لبنان منخرط في المعركة منذ الثامن من تشرين الأول، إلا أنّ الصحيح أيضًا أنّ هذه "الطمأنة" لم تكن موجّهة لإسرائيل، التي لا تنفكّ توجّه الرسائل حول عدم رغبتها بالحرب في لبنان، أقلّه في ظلّ "انشغالها" بعدوانها على غزة.

لهذه الأسباب، حرص السيد نصر الله على ترك كل الاحتمالات والخيارات مفتوحة، فهو وصف ما يحصل على الحدود الجنوبية بـ"غير المسبوق"، وأكّد أنه "لن يتمّ الاكتفاء به"، فاتحًا بذلك باب التكهّنات على مصراعيه، حول المسار المحتمل للأمور، خصوصًا أنّ هناك من قرأ خلف كلام السيد نصر الله إعلانًا صريحًا لطيّ صفحة وفتح أخرى، أو بكلام آخر، إعلانًا واضحًا عن انتقال، ربما يكون "سَلِسًا" بين مرحلتين، وإن تقاطعت المعطيات الموضوعية على تكريس "تشابه" بينهما، حتى إثبات العكس.

استنادًا إلى ما تقدّم، لا يستبعد البعض أن يكون خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" فاصلاً بالفعل بين مرحلتين، فهو قد لا ينهي "الصيغة الحالية" للاشتباكات الحدودية في الجنوب، والتي تتصاعد يومًا بعد يوم، تزامنًا مع ارتفاع وتيرتها ولو بشكل نسبيّ، ولكنه يفتح الباب أمام "معادلات جديدة" قد تحكم الأداء في الفترة المقبلة، عنوانها أنّ قواعد الاشتباك التي كانت سارية في السابق لم تعد كذلك اليوم، وأنّ مبدأ "العين بالعين والسنّ بالسنّ والبادئ أظلم" يبقى أساسيًا في مقاربات الحزب المقبلة.

بالنسبة إلى العارفين، فإنّ تغيير قواعد الاشتباك أضحى أمرًا واقعًا، ليس فقط لأنّ القصف الإسرائيلي تجاوز الحدود المرسومة، ولا لأنّ عمليات المقاومة في المقابل لم تعد محدودة بالزمان والمكان، ولكن لأنّ "الكلفة" التي دفعها الجانبان "باهظة" نسبيًا، بل إنّها تجاوزت بأشواط تلك التي تسبّبت باندلاع حرب تموز 2006، لكنّها لم تؤدّ إلى الانزلاق لحرب شاملة بالمعنى الكامل للكلمة، ما يوحي بأنّ "سقف" أيّ حرب بات أعلى، نتيجة "توازن الردع"، فضلاً عن الظروف المرتبطة بحرب غزة الحاليّة.

تبقى المشكلة الأساسيّة وسط كلّ هذه المعمعة في الداخل اللبناني، غير المجهَّز بالمُطلَق لمواجهة سيناريو الحرب، لا على المستوى السياسي، حيث تحكم البلاد حكومة تصريف أعمال لا يبدو القرار بيدها في الأساس، في ظلّ فراغ رئاسي محكوم بأمد طويل على ما يبدو، ولا على المستوى الاجتماعي، حيث غاب مشهد "اتحاد" اللبنانيين، الذين يبدو أنّهم فضّلوا تغليب خلافاتهم وانقساماتهم على تحصين ساحتهم، بدليل الضجّة التي أحاطت بخطاب السيد نصر الله، بل "السخرية" التي اعتمدها البعض إزاءه.

في النتيجة، الثابت بعد خطاب السيد نصر الله الأول منذ إطلاق عملية "طوفان الأقصى"، والذي لن يكون الأخير على الأرجح، هو أنّ "التكتيك تغيّر"، فـ"كسر الصمت" سيستتبع "كسرًا" للعديد من القواعد والأعراف، وإن بقي مضبوطًا بسقف محدّد، هو عدم الذهاب إلى "حرب كبرى" لا يريدها أحد، وليست في مصلحة أحد، بل إنّها لن تكون في مصلحة الفلسطينيين أنفسهم، الذين يدركون قبل غيرهم أنّ حربًا على الجبهة اللبنانية لن تغيّر في "بنك الأهداف" الإسرائيلي في غزة، وهنا بيت القصيد!.